عقد الإيجار بين مطرقة الإرادة وسندان العدالة : قراءة في أطروحة أردنية جريئة من قلب فاس
هشام التواتي
في رحاب مركز دراسات الدكتوراه التابع لجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، شهد يوم الجمعة 18 يوليو 2025 لحظة علمية فارقة تمثلت في مناقشة أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، تقدّم بها الطالب الباحث محمود مفلح فيصل الجراح، القادم من المملكة الأردنية الهاشمية، تحت إشراف الأستاذ الدكتور عبد الحميد أخريف، ومن تأطير لجنة علمية مرموقة ضمّت أسماءً لامعة من خيرة أساتذة القانون.
الأطروحة التي حملت عنوان “أزمة العدالة العقدية في عقد الإيجار – دراسة مقارنة بين التشريع الأردني والتشريع المغربي”، مثّلت جهدًا علميًا رصينًا يجمع بين الجرأة الفكرية والعمق المنهجي، إذ لم يكتف الباحث بتوصيف أزمة التوازن في عقد الإيجار، بل انخرط في تفكيك بنيتها القانونية والاجتماعية، مقترحًا في نهاية المطاف حلولًا عملية قابلة للتنفيذ، تنهل من الواقع وتعيد الاعتبار لوظيفة العقد كأداة لتحقيق العدالة لا لتكريس اختلالها.
وقد انطلق الطالب الباحث من ملاحظة مفادها أن عقد الإيجار، رغم بساطته الظاهرة، يشكل بؤرة توتر قانوني واجتماعي متزايد، بالنظر إلى تصاعد حالات فرض الشروط التعسفية، وتآكل القدرة التفاوضية لدى المستأجر، في ظلّ تحولات اقتصادية تفرض نفسها بقوة على العلاقة التعاقدية، سواء في الأردن أو المغرب. ولأن الواقع لا يرحم المفاهيم الجامدة، فإن الباحث دعا إلى إعادة النظر في فلسفة العقد ذاته، وإعمال منطق التوازن بدلًا من التقديس الأعمى لسلطان الإرادة.
ما يميز هذه الأطروحة حقًا، هو طابعها المقارن الذي كشف بجلاء عن الفروق البنيوية بين المنظومتين التشريعيتين. فالمشرّع المغربي، بحسب الدراسة، انتهج مقاربة مرنة تراعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية وتفتح المجال أمام تدخل قضائي فعّال، بينما ظلّ المشرّع الأردني، في عدة مستويات، حبيس منطق تقليدي يرى في العقد تجسيدًا للإرادة الحرة دون النظر إلى حقيقة التفاوت بين الطرفين.
وفي تفصيله لجوانب الأزمة، توقف الباحث عند إشكاليات محورية مثل صعوبة استيفاء الأجرة في التشريع الأردني، واعتماد الحبس التنفيذي كوسيلة غير متناسبة مع طبيعة العلاقة المدنية، بينما قدّم التشريع المغربي بدائل أكثر توازنًا وفعالية. كما ناقش أزمة الامتداد القانوني، وما تطرحه من توترات في علاقة الإيجار، منتقدًا غياب الضوابط الصارمة في القانون الأردني، ومشيدًا بالنضج النسبي للتشريع المغربي في هذا الباب.
ومن أبرز النقاط التي عالجتها الدراسة، الطابع الإشكالي لمبدأ “العقد شريعة المتعاقدين”، الذي تحوّل في بعض السياقات من ضمانة للحرية إلى أداة للهيمنة، خاصة عندما يغيب التكافؤ بين المؤجّر والمستأجر. وقد أظهر الباحث كيف أن هذا المبدأ، كما طُبّق بعد سنة 2000 في الأردن، أفرغ العلاقة التعاقدية من بعدها الإنساني والاجتماعي، وجعل من المؤجر طرفًا متغولًا في غياب ضوابط تقيّد سلطته.
في مقابل هذا التوصيف النقدي، اقترح الباحث حزمة من التوصيات العملية الجريئة: من بينها العدول عن الحبس التنفيذي كأداة لتحصيل الأجرة، وإقرار الدعوى المباشرة بشكل صريح، وتقييد مبدأ العقد شريعة المتعاقدين في عقود الإيجار، مع إعادة النظر في آلية دعوى استرداد المأجور بما يراعي حقوق المستأجر، فضلًا عن الدعوة إلى الاكتفاء باعتبار الكتابة شرطًا للإثبات لا للانعقاد، تمهيدًا لانفتاح أكبر على الرقمنة والذكاء الاصطناعي في توثيق العقود.
وقد أشادت لجنة المناقشة، المكوّنة من الأساتذة: الدكتور محمد بوزلافة رئيسًا، الدكتور عبد الحميد أخريف مشرفًا، الدكتور أمين أعزّان عضوًا، والدكتور هشام الزربوح عضوًا، بأهمية الموضوع وجدية المعالجة وغنى المقارنة، معتبرة أن الباحث نجح في تناول إشكالية دقيقة تمس جوهر العدالة التعاقدية من منظور نقدي معمق، مع تقديم مقترحات إصلاحية واقعية تواكب تحولات السياقين الأردني والمغربي. كما أثرى أعضاء اللجنة النقاش بملاحظاتهم العلمية الدقيقة، التي أكدت من جهة على القيمة العالية للعمل، ومن جهة أخرى أضاءت بعض الزوايا التي يمكن للباحث تطويرها مستقبلًا، دون أن تنتقص بأي حال من جودة المنهج أو صلابة البناء التحليلي.
وبعد هذا النقاش العلمي المثمر، والاستماع إلى تعقيبات الطالب الباحث، اختلت اللجنة للمداولة، لتُعلن في ختامه قبول الأطروحة ومنح شهادة الدكتوراه في القانون الخاص للباحث محمود مفلح فيصل الجراح بميزة مشرف جدًا مع التوصية بالنشر، تقديرًا لتميز العمل وأصالته وأهميته النظرية والعملية على حد سواء.
هكذا، تبرهن هذه الأطروحة على أن البحث العلمي، حين يتصل بالواقع ويتجاوز التحليل النظري إلى اقتراح الإصلاح، يتحول إلى أداة فعالة في ترسيخ العدالة وتعزيز التوازن داخل العلاقات التعاقدية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بعقود تمس الحق في السكن والاستقرار والكرامة.