الجابري: حفريات في ذاكرة مفكر بمشروع -الجزء الثاني
زازيد جبران
ثانيا: نظرة الجابري للتيارات النهضوية بالعالم الإسلامي والعربي.
شكلت "أزمة كورونا" مناسبة لتطفو على سقف بيتنا سجالات تعيد النقاش حول جذور وأسباب تخلفنا الذي زاد اليوم انفضاحا وتعيد طرح سؤال النهضة، فقدم كل تيار مرافعاته .
هي سجالات قديمة تتجدد بتجدد الأزمات وتتجذر باستمرار تجذر التأخر الحضاري فينا، فلسنا من الذين يعيشون لكل زمن ثقافي قضاياه وأسئلته. لذلك يبقى استحضار الجابري في هذا السياق يفرض نفسه، لقوة طرحه المشتغل على هذه القضايا والأسئلة بروح نقدية إحيائية واقتراحية.
إن كان سؤال النهضة يشكل محور اشتغال عدد من التيارات النهضوية قبل تشكل مشروع الجابري، فإنه لم يكن ممكنا لهذا الأخير أن يقدم على تأثيل مشروعه دون الغوص بالبحث والنقد في مشاريع هذه التيارات:
• التيار السلفي: شهد الجابري لهذا التيار بالأصالة في الدفاع عن الذات ضد الهجوم والاكتساح الحضاري الغربي، متحصنا بالتراث القديم. إلا أن الإشكال الذي وقع فيه حسب الجابري هو أنه ظل رهين الماضي ولم يلتفت للمستقبل الآتي الذي غدا مستقبلا ماضيا عنده1. خصوصا بعد الوقوف على هول الفارق الكبير بين التقدم الحضاري والعسكري والتكنولوجي والثقافي الغربي وبين الانحطاط والجمود الحضاري الذي تعيشه الشعوب الاسلامية والعربية في أغلب الميادين. لذلك رأى الجابري أن معالجة إخفاقات هذا التيار تتمثل في " أن يحصل تكتل تاريخي بين القوة المعبئة وبين القوة المفكرة، أي بين القوة التي توظف المستقبل الماضي والقوة التي لها قدرة على الارتباط بالمستقبل الآتي، إذا لم يقع هذا النوع من التكتل والكتلة التاريخية لن يسهل الخروج من عنق الزجاجة".
• التيار الاستغرابي: هذا التيار الذي يدعو إلى الارتماء الكلي في أحضان الغرب والتخلص من التراث باعتباره عائقا نحو التقدم والتحضر2. يعقب الجابري على أصحاب هذا التيار بأنهم ينظرون للتراث من فضاء معرفي آخر، وبأنهم تناسوا أن هذا الغرب لن يسمح لهم بالتقدم والتطور، بل إنه يتحول لكاسر قوي وشرس لأي نمو تصاعدي يحتضنه أصحاب هذا المشروع . فالغرب يريد فقط من أصحاب تيار الاستغراب أن يقلدوه ويكونوا أدوات له في بلدانهم المتخلفة، من أجل تنفيذ سياساته التوسعية التسلطية والاستنزافية. هذه الحقيقة حسب الجابري جعلت هؤلاء يتعامون على حقيقة الغرب المزدوجة في كونه نموذج للتطور والتقدم، وفي نفس الآن خصم حسود يغيظه بروز منافس له في هذا الاتجاه.
• التيار الماركسي: اعترف الجابري للماركسية بأهميتها، بل إن من أهم الآليات المنهجية التي اعتمدها في دراسته للتراث العربي الإسلامي كانت ذات تمظهرات ماركسية (المنهج التاريخي نموذجا). إلا أن الجابري يعتبر أن استدعاء هذا التيار لقوالب جاهزة من واقع أوربا في القرن 19، من واقع مجتمع رأسمالي متطور والعمل على إسقاطه على واقعنا هي إحدى المطبات التي وقع فيها ولم يخرج منها. لذلك وقع هذا التيار حسب الجابري في اصطدام وعدم التوافق بين تلك القوالب المستوردة وبين واقع بلداننا ومعطياتنا المحلية.
يقول الجابري في كتابه التراث والحداثة: " هناك أخيرا صورة عصرية أخرى ماركساوية الادعاء أخذت تزاحم، منذ بضع سنين، الصورة الإستشراقوية لتراثنا، هذه الصورة الماركساوية تتميز عن سابقتها بكونها تعي تبعيتها للماركسية و تفاخر بها و لكنها لا تعي تبعيتها الضمنية للإطار نفسه الذي تصدر عنه القراءة الإستشراقوية لتراثنا، إن الأحادية التاريخية التي تحاول هذه الصورة اعتمادها، كمنهج مطبق و ليس كمنهج للتطبيق، مؤطرة داخل إطار المركزية الأوربية، إطار عالمية تاريخ الفكر الأوربي، بل التاريخ الأوربي عامة، و إحتواءه لكل ماعداه، إن لم يكن على صعيد المضمون و الاتجاه فعلى الأقل، و هذا أكيد على صعيد المفاهيم و المقولات الجاهزة،... و هذا ما يجعل الصورة الماركساوية لتراثنا العربي الإسلامي تقوم هي الأخرى على الفهم من الخارج لهذا التراث، مثلها مثل الصورة الإستشراقوية سواء بسواء". إضافة إلى أن الجابري يؤاخذ على الماركسيين أنهم أنشؤوا علاقة ايديولوجية مع التراث3.
• التيار القومي: كان طموح هذا التيار هو إنشاء إطار وحدوي وكيان موحد يجمع العرب، وما تأسيس " جامعة الدول العربية" إلا إحدى تجلياته. اعتبر الجابري أن أزمة هذا التيارتتمثل في أنه يفكر قوميا لواقع مجزأ، لينتهي الأمر بهذه الجامعة "منظمة تطفي الشرعية على كل قطر عربي".
الخلاصة الكبرى التي خرج بها الجابري من خلال تقليبه لهذه التيارات، أنها انتهت بالفشل في ايجاد تعريف واضح لمضمون النهضة وتحديد المداخل الناجعة والواقعية والمعقولة إليها. بل اعتبر أبرز هذه التيارات بأنها "سلفية" منتقدا منظومتها المرجعية، فإلى جانب سلف السلفية أطلق على التيارين الأخرين سلف الليبرالي وسلف الماركسي.
ثالثا: سياق بروز مشروع الجابري
إن كان مشروع الجابري الثاني حول القرآن الكريم جاء نتيجة أحداث 11 شتنبر 2001، فإن مشروعه الأول في نقد العقل العربي جاء في سياق تداعيات نكسة 1967 والهزيمة المخزية أمام إسرائيل. فهي لم تكن نكبة عسكرية وسياسية فقط، بل كانت أكبر من ذلك، هي مشكلة حضارية بالأساس. هذه النكسة حركت عددا من المفكرين والمثقفين بالبلاد الإسلامية والعربية لإعادة طرح سؤال التفكك والانهزام والويلات المستدامة لهذه البلدان في أي منعرج تاريخي نصادفه في مسارنا التاريخي. فدور المثقف أن يقدم المعرفة لمعالجة الفراغات التي تحدثها الأزمات. ويعتبر الجابري من المفكرين الذين أثلوا مشروعاتهم بعد النكبة، فعمل على البحث والحفر في أسباب هذه الصدمات المتوالية.
يرجع الجابري سبب الهزيمة أمام إسرائيل بالأساس إلى أن مشاريع الإصلاح أغفلت البعد الديني الذي استطاعت إسرائيل توظيفه بمكر، بحيث أن قيامها على أساطير دينية مستلهمة من التلمود والتوراة، التي تتحدث عن أن هناك عودة للمسيح لفلسطين، جعل إرادة اليمين المسيحي تتوافق وأهداف المشروع الصهيوني بفلسطين، وهو ما مكن إسرائيل من تجييش أوروبا المسيحية معها.
فإسرائيل حسب الجابري لم تكن تحارب بسلاح العسكر فقط، بل استخدمت سلاحا أقوى هو الأسطورة الدينية. فمشاريع الإصلاح تناست البنية العميقة للمشروع الفكري للصهاينة. لذلك عمل الجابري على نبش هذه القضايا الشائكة وإعادة صياغة الأسئلة وما يترتب عليها من ضرورة الإجابة عليها.
بالرجوع إلى مشاريع النهضة التي ظهرت قبل النكسة ، فقد ركز الجابري في بحثه أكثر على مشروعي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. ليطرح كخلاصة أن جمال الدين الأفغاني ظن أنه يمكن إحداث تغيير جذري عبر إصلاح المجال السياسي وإقامة الدولة، للتمكن من المشروع النهضوي المنشود.
اعتبر الجابري أن الأفغاني استخدم السياسة في الدين، ففشل لقصور نظره عن الظاهرة الاجتماعية في شموليتها، ولكونه كان مشروع ردة فعل وليس مشروعا استراتيجيا للمستقبل، فلم يكن هم الأفغاني الإجابة عن سؤال ماذا بعد طرد المستعمر؟
أما محمد عبده الذي رافق الأفغاني لزمن ليفارقه فيما بعد، بعد أن فرقت بينهما الرؤى، عمل على صياغة مشروعه النهضوي المرتكز أساسا على مدخل المؤسسة التعليمية الدينية، والعمل على تقويتها، وهنا جاء طلب محمد عبده من "اللورد كرومر" منح الأزهر والمؤسسة الدينية سلطات أكبرفي اتخاذ القرار. لذلك قال عنه الجابري أنه مارس الدين في السياسة.
هذه النظرة التجزيئية لمشاريع الإصلاح والانطلاق منها لإقامة مشروع حضاري للأمة هو ما ضبب عليها حسب الجابري تحديد مضمون واضح للمقصود بالنهضة.
لذلك اعتبر الجابري أن المدخل الأساسي لتجاوز هذه العقبة هو البحث في مصادر تكوين العقل العربي، لأنه المسؤول عن نهضتنا أو تأخرنا، فعمل على تدشين صياغة مشروعه الأساسي المعروف ب "نقد العقل العربي"، الذي أصدره في أربعة أجزاء(تكوين العقل العربي، بنية العقل العربي، العقل السياسي العربي،العقل الأخلاقي العربي). غير أن تدشين هذا المشروع بدت إرهاصاته الأولى مع كتابه الأول سنة 1971 "العصبية والدولة" – في أصله أطروحة دكتوراه- الذي يعتبر قراءة جديدة لتراث ابن خلدون، ليتبعه بكتاب " نحن والتراث" في مستهل ثمانينيات القرن الماضي، والذي من خلاله أراد الجابري تحييد الذاتي عن الموضوعي في قراءة التراث، وبناء ذات قارئة وموضوع مقروء. وقد اعتبر كمال عبد اللطيف أن هذا الكتاب هو العمل التأسيسي لمشروع نقد العقل العربي.
رابعا: المحددات المتحكمة في العقل السياسي العربي
قبل أن يشرع الجابري في تقديم هذه المحددات الثلاث (القبيلة والغنيمة والعقيدة)، قام باستعارة مجموعة من المفاهيم من مفكرين غربيين لتساعده في تحديده، وقام بإسقاطها من بيئتها الغربية على البيئة الإسلامية والعربية. وتجدر الإشارة إلى أن الجابري كثير الاستناد على المرجعية الفلسفية الفرنسية، أمثال "ميشال فوكو" و "أندريه لالاند" و"برتران بادي" وريجيس دوبريه" و"غاستون باشلار" وغيرهم، هذه الأسماء المعروفة بانشغالاتها في دراسة المؤسسات الاجتماعية. وبالعودة إلى المفاهيم التي استعارها الجابري من بعض هؤلاء المفكرين، نجدها تتمثل في:
• المجال السياسي: هو مفهوم استعمله عالم الاجتماع الفرنسي "برتران بادي" الذي توصل من خلال تحليله للممارسة السياسية بأوربا، أنها تغيرت تماما بفعل بروز مكانة عنصر جديد الذي هو الشعب، إثر الصراع بين الكنيسة والملك، مما مكن الأفراد أن يصنعوا لأنفسهم منزلة بينهما.
• المخيال الاجتماعي: استقدم الجابري هذا المفهوم من الحقل الاجتماعي والانتربولوجي، هذا المخيال يمثل القيم والتصورات والدلالات والرموز التي تمنح للاديولوجية بنيتها اللاشعورية.
• اللاشعور السياسي: استعار الجابري هذا المفهوم من الفرنسي "ريجيس دوبريه"، الذي تناول القضية الاشتراكية بإسقاطاتها و واقعها في الاتحاد السوفياتي سابقا. عمل الجابري على إسقاطه على تحليله للعقل السياسي العربي. ف"دوبريه" اعتبر أن الظاهرة السياسية انعكاس للاوعي الناس السياسي.
أسقط الجابري هذه المفاهيم وبيئها و وظفها في تسطير محددات العقل السياسي العربي، والمتجلية في:
• القبيلة : هي ما يسميها ابن خلدون بالعصبية، أو ما يطلق عليه الأنتروبولوجيون الغربيون "القرابة"،التي من أبرز أركانها قرابة الدم. إلا أن الجابري لا يحصر القرابة في الدم فقط، بل ينقلها للدولة والمدينة والحي...
• الغنيمة: هي ما عرف سابقا بالفيء والخراج، واعتبرها الجابري ليست وليدة عملية إنتاجية، فقيام الاقتصاد عليها هو تكريس للريع – يظهر لنا كمثال صارخ اعتماد دول الخليج على النفط بشكل أساسي ولم تستطع بناء اقتصاد منتج وفعال. ووضح الجابري أن زمن الاستعمار كانت الشعوب صابرة على المستعمر وهو ينهب الخيرات ويستنزف الثروات، ولكن بعد الاستقلال استمر النهب والاستنزاف من أبناء جلدتهم فتوسعت الفوارق بين الطبقة الفقيرة وأخرى غنية، وهو ما شكل وعيا بأن هناك "اقتصاد غنيمة"، يغنم ثروات ومصالح لفائدة فئة دون أخرى.
• العقيدة: حسم الجابري أن ليس قصده منها النصوص الدينية بذاتها ولا الأحكام الشرعية، وإنما قصده ما ترسب عند الناس من تصورات عقدية صحيحة وغير صحيحة، فلا يقصد مضمون العقيدة الإسلامية بل فعل الاعتقاد نفسه.
حسب الجابري فهذه المحددات الثلاث4 هي من يحكم العقل السياسي العربي، وما زالت تحكمه. ويعتبر أن من مهام الفكر الإسلامي والعربي اليوم " تجديد العقل السياسي، ويتجلى ذلك فيما يلي: أولا تحويل القبيلة إلى مجتمع منظم مدنيا وسياسيا واجتماعيا، ثانيا تحويل الغنيمة إلى اقتصاد ضريبة واقتصاد منتج، ثالثا تحويل العقيدة إلى مجرد رأي، ومن ثم التعامل بعقل اجتهادي نقلي".
الهامش:
1 - محمد عابد الجابري: نحن والتراث: مرجع سابق ، ص.13
2 -موسى بن سماعين: نقد الجابري للقراءات السلفية للتراث. مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، مجلة 21، العدد 02، جامعة بتنة ، الجزائر، 2020، ص 149.
3- محمد عابد الجابري: المرجع السابق، ص 16.
4- محمد عابد الجابري: نقد العقل العربي: العقل السياسي: محددات وتجليات. مركز دراسات الوحدة العربية، ط،1 ببيروت، .1990، ص 60.