الجابري: حفريات في ذاكرة مفكر بمشروع -الجزء الأول

الجابري: حفريات في ذاكرة مفكر بمشروع -الجزء الأول

زازيد جبران
 
تقديم

حلت منذ أيام ذكرى رحيل المفكر والفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري رحمه الله، وتأتي ذكرى هذا العام في سياق وطني ودولي مرهق بتداعيات وآثار جائحة كورونا. إرهاق إن كنا شاركنا فيه باقي دول العالم هم مطلب الدواء اليوم قبل الغد لإفناء هذه الجائحة قبل أن تفنينا، فإننا نتفرد إلى جانب الأمم المتخلفة بسؤال أكثر إرهاقا، إلى متى ستظل الأزمات تفضح تأخرنا الحضاري؟
إنه سؤال جوهري فكري وفلسفي وحضاري يحفر في ماضينا ويستقرئ حاضرنا ويستشرف مستقبلنا ومصيرنا. لذلك فاستحضار الجابري في هذا السياق يفرض نفسه بقوة، لأن سؤال النهضة هو القضية الكبرى التي ارتكز عليها مشروعه الضخم، وهو ما دفعه في كتابه "الفكر العربي المعاصر" إلى تحليل أغلب المشاريع النهضوية بالبلاد الاسلامية والعربية التي حاولت الإجابة عن سؤال: لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟ ووقف الجابري على أنها مشاريع فشلت في معالجة هذه الإشكالية الكبرى، جازما أننا لن ننجح في القيام بنهضة فكرية وفلسفية وثقافية دون البحث خلف العقل الذي صنع  التراث، والرجوع إلى الأسس التي يفكر فيها هذا العقل، فلا يمكن القيام بنهضة بعقل غير ناهض، عقل تجمد عن القيام بمراجعة شاملة لآلياته وتصوراته ومفاهيمه، لذلك كانت القضية الأساسية و عصب مشروعه الفكري هي دراسة الأسس التي يقوم عليها العقل الذي يقف خلف تراثنا من أجل القيام بالتغيير والنهضة المنشودين1.

بحكم أن منهج الجابري الرئيسي بنيوي تحليلي نقدي، فقد قام بإعادة قراءة التراث الذي خلفه هذا العقل من الداخل، وذلك بتقعيد الحقائق والتخلص من الأساطير والخرافات من داخله، ومن ميزات الجابري أنه تناول هذه القضايا الصعبة المعقدة بلغة سهلة يفهمها الجميع.


مشروع الجابري كبير سواء من حيث عدد قضاياه المطروحة أو من حيث عدد كتبه، طرح من خلاله إشكالات كبرى -تتعلق بطبيعة علاقتنا بالتراث2- من أهمها: هل أزمتنا في التراث الذي يتحكم في مصيرنا، وبالتالي وجب التخلص منه؟ أم أن التراث انطلاقة جديدة نحو إنتاج ثقافة تليق بحاضرنا  ومؤمنة لعبورنا نحو المستقبل، وبالتالي ما هي شروط التعامل مع هذا التراث؟ هل يمثل نسخ العلمانية  الغربية داخل أوطاننا مخرجا لنا من أزمتنا هذه؟ وإن كانت لا تصلح فما البديل إذن؟ما هي السلط المترسخة في عقلنا الجمعي وتتحكم في طريقة تفكيرنا؟ وما هي المحددات الرئيسية لهذا العقل؟ وكيف نكتشف اسقاطاتها وهيمنتها على عقلنا السياسي؟ وما هو السبيل لإعادة بناء علاقتنا مع الأنا/ الذات/ الفكر ومع واقعنا ومع الآخر؟

هذه القضايا وغيرها شغلت فكر الجابري ولبه وقدم من أجل تناولها جهده ووقته وصحته، وهو الذي كان دائم الزيارة للمصحات بسبب مشاكل في القلب ويده التي كانت مهددة بالشلل وعينه التي انفجرت شبكيتها.

 أولا: قبل الاستغراف من مشروع الرجل:

طبعا، مشروع فكري ضخم  مثل هذا لابد وأن يخضع للنقد، بل أشبع نقدا وتقليبا وتنقيبا، وما زاده إشباعا بالإضافة إلى الكتب والدراسات الصادرة في شأنه هو العدد الكبير من أطاريح الدكتوراه في البلاد الاسلامية والعربية وفي أوروبا واليابان وأمريكا وعدد آخر من بلدان العالم، وكان الجابري يتابعها، وعبر قيد حياته عن سعادته أن تتناول كل هذه الأقلام فكره بالبحث والنقد.

يبقى أشهر من تصدى لمشروع الجابري بالنقد هو جورج طرابيشي، غير أن عددا كبيرا من النقاد أجمعوا أن هذا الأخير لم يرقى إلى نقد الجابري في مقولاته المركزية والمؤسسة لمشروعه، بل ظل يحوم في هوامشه دون أن يطرح أفكارا أو يقدم بديلا موازيا ، كل عمله أن يعترض ويفند ، فكتب ثلاث كتب كلها في نقد نقد العقل العربي كان فيها تدخليا فقط. والجابري- وهذه إحدى المؤاخذات عليه- لم يكن يرد على انتقادات طرابيشي وغيره.

وقد تحدث الجابري عن سبب عزوفه عن قراءة نقد طرابيشي، فإن كان هذا الأخير قد كتب مقالة إطرائية في "مجلة الوحدة" إعجابا بكتاب الجابري "نحن والتراث"- قال عنها هذا الأخير أنه لا يستطيع كتابة إطراء مثله-3، فقد حدث أن غضب الجابري على طرابيشي في لقاء ضم عددا من كبار المفكرين وأحرجه أمامهم، ليعمد إلى الكتابة في مقدمة كتابه الأول أن الجابري قد تربع على عرش الثقافة العربية فيجب إزالته، يقول الجابري أنه بعد أن قرأ هذا الكلام أغلق الكتاب، وقال ها أنا أزلت نفسي بنفسي من فوق هذا العرش، ولم يعد إلى فتح ذلك الكتاب  أبدا. رغم ذلك فقد تمت مؤاخذة الجابري عن عدم التفاته لمنتقديه للرد عليهم، فكان كالآلة المكلفة بالإنتاج تلو الإنتاج ما جعل عدد من القضايا التي تناولها بقيت مستشكلة.

تعرض الجابري أيضا للانتقاد من طرف المفكرين المشارقة لأنه انتصر للعقل المغربي المتمثل أساسا في ابن رشد، ووصفه بأنه عقل نقدي تحليلي ودعا إلى تبنيه من أجل الخروج من حالة الركون إلى الأسئلة المزيفة. بينما وجه نقدا لاذعا للعقل المشرقي واعتبره عقلا مستقيلا أمام القضايا الكبرى، هذا العقل الذي كان ابن عربي وابن سينا والفارابي أهم الممثلين له.

الجابري تعرض أيضا من داخل بلاد المغرب لنقد شديد من بعض أنصار الأمازيغية، على اعتبار أن الجابري أمازيغي الأصل تنكر لهويته المركزية وعمل داعيا على أبواب العروبة، متناسيا أن الأمازيغ يشكلون البنية الرئيسة أمام العالم الذي يدرسه. وبعد إصدار الجابري لثلاثيته في القرآن الكريم تعرض لنقد شديد، بل بلغ الأمر بالأصوليين حد تكفير الرجل.

لنغلق قوس الانتقادات التي تعرض لها الجابري ومشروعه، والتي اتسمت في جوانب منها بدفوعات قوية وملاحظات عميقة، كانت تحتاج من الجابري ردا عليها، وفي جوانب أخرى منها نلمس فيها انتقادا اتهاميا و إنكارا لجهوده في البحث(أدونيس نموذجا)، بل وبلغت حد محاكمة نواياه  واتهامه بأنه يحمل رؤية تآمرية (تركي الربيع نموذجا).

 كتعقيب متواضع على الانتقادات التي عرضناها بإيجاز سابقا – هو تعقيب حصالة ما تجمع من النظر في عدد من الدراسات حول مشروع الجابري - ، فإن اتهام المفكرين المشارقة له بكونه كان متعسفا وقاسيا في اتهامه للعقل المشرقي بالمسؤولية الكبرى على الانحطاط وهو المؤسس للعقل المستقيل في الثقافة العربية والإسلامية، إن هذا الاتهام لم يكن في ذهن الجابري على إطلاقه بل نجده يستثني مثلا " يعقوب بن إسحاق الكندي" المفكر المشرقي، ويعتبره الجابري حالة خاصة وسط قرنائه، كما أن الجابري نظر بإيجاب لرسالة "أبو القاسم القشيري" في التصوف وهو من علماء المشرق. 

وتعليقا على الهجوم الشديد لبعض أنصار الأمازيغية على ما اعتقدوه انتصارا من الجابري للعروبة ضدا في الأمازيغية، فإن هؤلاء أغفلوا أن الرجل تحدث عن العروبة ليس كعرق أو جنس أو أصل، بل كعروبة ثقافية ، هو حديث عن الهوية الثقافية العربية ، وجعل اللغة أحد أهم محددات هذه الهوية، معتبرا أن اللغة ليست أداة توصيل محايدة كما ذهب إلى ذلك البعض، بل هي نفسها تدخل ضمن إنتاج المعرفة. لذلك اعتبر الجابري أن اللغة العربية تكونت من مزيج من الثقافات (الفارسية والهندية والإفريقية..)، واستطاعت استيعاب انتاج الحضارات السابقة مثلما استوعبت الداخلين إليها من الحضارات اليونانية والسريانية وغيرها، فاستوطنت داخل الثقافة العربية وأصبحت عنصرا أصيلا فيها. وهو ما دفع الجابري أن يطلق على العروبة ب "قومية القوميات"، ولنا طبعا أن نتخيل حجم الهجوم الذي سيتعرض له الجابري لإطلاقه هذا. 

أما ما يخص الانتقادات الموجهة للجابري حول ثلاثيته في القرآن الكريم( المدخل والفهم وأسباب النزول)، والتي صحبت خروجها ضجة إعلامية كبرى واتهامات قيمية خصوصا من التيارات الدينية بالمشرق والخليج، بلغت حد اتهامه بالتشكيك في كمال المصحف. لا نملك أن نقول سوى أن هؤلاء كان عليهم أن يستحضروا أن الجابري كتب في جزء" مدخل لفهم القرآن" أنه يدخل هذا الحقل دون تخصص، لذلك كان من الطبيعي أن يكون تناوله فيلسوفيا وليس فقهيا مما جعل مشروعه الثلاثي حول القرآن الكريم ضعيفا بالمقارنة مع مشروعه في نقد العقل العربي. كما كانت سقطات جورج طرابيشي الأديب على أعتاب مشروع للفيلسوف الجابري. وقبل إغلاق هذا القوس هناك من اعتبر اختيار الجابري اختتام ما تبقى من حياته مع القرآن كأنها تغريدة البجعة4.

إن من حسنات مشروع الجابري الذي بذل من أجله مجهودا كبيرا وقدم فيه جديدا للفكر العربي والإسلامي أنه حرك أقلاما كثيرة للبحث والكتابة والنقد في أسسه.

الهامش:

1 - محمد عابد الجابري : نقد العقل العربي : تكوين العقل العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ، الطبعة 10 ،2009، ص 5.

2- محمد عابد الجابري: نحن والتراث: قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي. المركز الثقافي العربي، الطبعة، 1996.

3--سبق لجورج طرابيشي أن قال: "إن الذهن بعد مطالعة تكوين العقل العربي لا يبقى كما كان قبلها. فنحن أمام أطروحة تغير وليس مجرد أطروحة تثقف “: جورج طرابيشي: نقد نقد العقل العربي: نظرية العقل، دار الساقي، بيروت، 1999، ص 09 .

4- - يقال عن البجعة: إنها إذا ما دنت من ختام حياتها سُمعت لها أنات منغومة تطرِب آذان البشر، ولا يمنع طربها أن تكون تلك الأنات صادرة — على الأرجح — من ألم يكويها، ومن هذه التغريدة الجميلة قبيل موتها جاء التشبيه عند أدباء الغرب الذي يصفون به عملا جيدا أنجزه صاحبه ليختم به حياته، إذ يقولون عنه: إنه تغريدة البجعة.