خطاب الملك محمد السادس في افتتاح البرلمان: رسائل مضمرة في زمن احتجاجات جيل Z
هشام التواتي
في خطابه الموجه إلى الأمة من قبة البرلمان يوم 10 أكتوبر، بدا الملك محمد السادس كمن يكتب في الزمن الفاصل بين ولايتين: ولاية سياسية على مشارف نهايتها، وولاية اجتماعية لم تولد بعد، لكنها تفرض وجودها على الأرض في صيغة احتجاجات متواصلة يقودها شباب جيل Z منذ أواخر شتنبر. الخطاب، من حيث بنيته ومضامينه، يجمع بين ثلاثة مستويات: خطاب دولة حريص على التوازن المؤسساتي، وخطاب ملكي يرسّخ الشرعية الرمزية، وخطاب مضمر يحاول احتواء المتغير الاجتماعي الطارئ الذي لم يعد يقبل بلغة التسويف ولا ببلاغات النوايا.
إن التوقيت السياسي للخطاب، في افتتاح السنة التشريعية الأخيرة من الولاية ، يعطيه حمولة انتقالية، لكنه يتجاوز طبيعته الدستورية ليصبح، في جوهره، خطاب أزمة. ذلك أن السياق الاجتماعي الذي يلقي بظلاله على المغرب منذ أسابيع، والمتمثل في احتجاجات شبابية يومية تتخذ طابعا لا مركزيا، أفقيا، وغير مؤطر تنظيميا ، أعاد سؤال “الوساطة” السياسية إلى الواجهة. وهنا يكتسب الحديث الملكي عن دور البرلمانيين والأحزاب ووسائل الإعلام والمجتمع المدني في تأطير المواطنين وإيصال المعلومة الرسمية أهمية خاصة. فالمشكل لم يعد في مضمون السياسات فحسب، بل في شرعية من ينقلها، وكيفية تلقّيها من قبل المواطنين.
ولعل العبارة المفتاحية في الخطاب هي: “وهذه ليست مسؤولية الحكومة وحدها، بل هي مسؤولية الجميع، وفي مقدمتهم أنتم أيها البرلمانيون”، والتي تشي بتحول في منظور السلطة نحو توزيع أفقي للمحاسبة. فالمؤسسة الملكية، وهي ترصد تراجع الثقة في الطبقة السياسية، تحاول أن تضع هذه الأخيرة في مواجهة مباشرة مع الشارع، عبر تحميلها مسؤولية الوساطة والشرح والإقناع. في العمق، هذا اعتراف غير مباشر بغياب فعالية القنوات التقليدية للتواصل بين الدولة والمجتمع، لا سيما مع فئة شابة متمردة على الأنماط الكلاسيكية للمشاركة السياسية.
كما أن التأكيد على “عدم التناقض بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية” ليس تفصيلا تقنيا، بل رد استراتيجي على اتهامات الشارع التي ترى في الأوراش الضخمة، كميناء الداخلة أو مشاريع البنية التحتية الكبرى، نوعا من “الترف الإنمائي” الذي لا ينعكس على حياة المواطن اليومية. في هذا السياق، يذكّر الخطاب بأن التنمية ليست مجرد بنى فوقية، بل توازن دقيق بين الإنجاز المادي والعدالة الاجتماعية. ولعل التحذير من “ضياع الوقت والجهد والإمكانات” يوجه نقدا صريحا للإدارة العمومية وللحكومة على حد سواء، في ما يشبه استعادة متجددة لخطاب “الزلزال السياسي” الذي ألقاه الملك في 2017.
الخطاب يعيد طرح المفهوم الملكي للعدالة الاجتماعية والمجالية، لا باعتبارها شعارات موسمية، بل كـ”رهان مصيري” يعلو على الظرفية الحكومية. لكن الجديد هنا هو الحديث الصريح عن “تغيير في العقليات وطريقة العمل”، وهي إشارة لا تخفى دلالتها في دولة ذات بيروقراطية متجذرة وذهنية مركزية مهيمنة. يتجه الخطاب إلى ما يشبه إعلان القطيعة الرمزية مع نمط التدبير الإداري التقليدي، لصالح ما يسميه الملك بـ”ثقافة النتائج” و”المعطيات الميدانية الدقيقة”، وهو ما يلامس مطالب الشارع الذي يتحدث لغة الأرقام والتأثير المباشر، لا لغة المبادئ المجردة.
في الجانب التنموي، التركيز على المناطق الجبلية والسواحل والمراكز القروية لا يمكن عزله عن خطاب الأزمة كذلك. فهذه المجالات لطالما مثلت “الهامش الجغرافي”، لكنه صار اليوم “الهامش السياسي” الذي يفرز حركات احتجاجية وأصواتا راديكالية. بدت الدولة، من خلال الخطاب، واعية بضرورة إعادة ترتيب الأولويات التنموية وفق منطق الإنصاف الترابي، ولكن دون أن توضح آليات التفعيل ولا مواعيد التنفيذ، ما يفتح المجال أمام مزيد من الشكوك.
من جهة أخرى، غابت الإشارة المباشرة إلى الاحتجاجات الأخيرة، وهو غياب يُفهم في إطار السياسة التواصلية للقصر، التي تحرص على ترك مسافة رمزية بين الملك والمؤسسات التنفيذية. لكن حضور هذه الاحتجاجات كان واضحا فيما يمكن تسميته بـ”لغة ما بين السطور”. فالدعوة إلى “تعبئة الطاقات” و”نكران الذات” و”محاربة التهاون في الاستثمار العمومي”، كلها مصطلحات تعكس إدراكا حقيقيا لحالة الحراك الشعبي. وإن كان الخطاب لم يتبنَّ لغتهم، فهو على الأقل بعث إشارات تلتقي مع بعض مطالبهم، مثل الدعوة لخلق فرص الشغل وتحسين الخدمات العمومية.
إن انعكاسات الخطاب ستكون متعددة الأوجه. من جهة، قد يجد فيه الفاعل الحزبي غطاء لاستعادة جزء من المبادرة السياسية، شريطة ألا يقرأه كوثيقة رمزية فقط، بل كإنذار عملي بمراجعة الأداء والمؤسسات. من جهة ثانية، يُحتمل أن يولّد الخطاب خيبة لدى جزء من الشارع الشبابي الذي ينتظر أجوبة أكثر مباشرة، وأكثر جسارة في الاعتراف بالأزمة السياسية والاقتصادية. أما الإدارة، فهي مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتغيير حقيقي في نمط اشتغالها، ليس استجابة للخطاب الملكي فحسب، بل لأن الزمن الاجتماعي لم يعد يحتمل الانتظار.
خطاب 10 أكتوبر هو، بهذا المعنى، إعلان نوايا سياسي واجتماعي، يراوح بين التحذير والتحفيز، بين الشرعية الرمزية والضغط الواقعي. لكنه يظل، رغم نبرته الحازمة، مفتوحا على جميع التأويلات، ما لم تصاحبه قرارات واضحة ومباشرة تستجيب لانتظارات مغرب جديد، يتشكل في الشارع قبل أن يُكتب في المؤسسات.